يُعتبر المثل العربي “أحق الخيل بالركض المعار” من الأمثال القديمة التي تعكس فهماً عميقاً للحياة، وتستند إلى ثقافة الخيل في المجتمعات العربية التي لطالما كانت رمزاً للقوة والعزة والقدرة على التحمل. في هذا السياق، ارتبطت الخيل بالحروب والسباقات والمناسبات المختلفة، وكان الحديث عن الفرس يتجاوز وصف الحيوان نفسه ليحمل دلالات أوسع عن الشجاعة والتحمل والانطلاق.
أصل كلمة “المعار”
كلمة “المعار” تعود إلى الجذر “عار”، وهي تشير إلى الشيء العاري أو المستعار، الذي يُستخدم مؤقتاً ولا يُمتلك بشكل دائم. يوضح هذا المصطلح الفكرة القائلة بأن الأشياء المستعارة تُستخدم غالباً بلا شفقة ولا تردد، لأنها ليست ملكاً دائماً للشخص، وبالتالي يتم استغلالها بشكل أكبر ودفعها لأقصى حدودها.
توظيف المثل في الأدب والشعر
استخدم العرب القدماء هذا المثل للتعبير عن فكرة عدم الرفق أو الشفقة بالشيء المستعار، وضربوا به المثل في الخيل التي يتم استعارتها واستخدامها للركض والسباق. ومن أبرز الأبيات الشعرية التي استخدمت هذا المثل هو بيت للشاعر بشر بن أبي خازم الأسدي:
“كأن حفيف منخره إذا ما
كتمن الربو كير مستعار،
وجدنا في كتاب بني تميم،
أحق الخيل بالركض المعار.”
في هذا البيت، يُصور الشاعر الفرس بشكل فني، حيث يشبه صوت أنفاس الفرس في حالتها المتعبة بصوت “الكير المستعار”، وهي آلة تستخدم في الحدادة لنفخ الهواء على النار. ويُقصد هنا أن الفرس، رغم تعبه الشديد، يستمر في الركض وكأنه يُستخدم بلا شفقة أو هوادة، وهذا يعكس قدرة الفرس المستعار على التحمل.
تفسير “المعار” والآراء المختلفة حوله
تباينت الآراء حول معنى كلمة “المعار”. فبعض الشُرّاح ذهبوا إلى أن “المعار” تعني الفرس الذي يتم استعارته لفترة قصيرة، وبالتالي يُعامل بشكل أكثر شدة، دون أن يُرفق به كفرس المالك الأصلي. ومن هنا جاء المثل، ليعبر عن عدم التردد في استخدام الفرس المستعار بأقصى طاقته لأنه ليس ملكاً دائماً.
من ناحية أخرى، رأى البعض أن “المعار” تُشير إلى الفرس “المسمن”، أي الذي تمت تغذيته بشكل جيد لفترة معينة ليصبح قوياً ومهيأً للركض، وهذا ما يعبر عنه قول الشاعر:
“أعيروا خيلكم ثم اركضوها، أحق الخيل بالركض المعار.”
رأى اللغوي الشهير أبو عبيدة أن معنى المثل لا يتعلق بالمستعار بالمفهوم التقليدي، بل يعود إلى تفسير آخر حيث يعتقد أن “المعار” قد تكون مشتقة من “الضمر”، بمعنى أن الفرس يكون مُعداً ومستعداً للركض بعد العناية المركزة لفترة محددة، مما يجعله أفضل أداءً وأكثر تحملاً. وأشار أيضاً إلى أن قول “وجدنا في كتاب بني تميم” هو قول للشاعر الطرماح بن الحكيم وليس لبشر بن أبي خازم، وأن هناك اختلافاً في أصل البيت الشعري.
استعمال المثل كمفهوم مجازي
يُستخدم هذا المثل كمجاز في حياتنا اليومية ليعبر عن فكرة أن الأشخاص أو الأشياء التي لا تكون تحت الرعاية الدائمة أو الملكية التامة يمكن أن تواجه ظروفاً أصعب أو استغلالاً أكبر، لأنه لا يتم الاهتمام بها كأنها ملك دائم. وتُستعار هذه الفكرة في مواقف مختلفة، مثل الآلات أو المعدات التي يتم استخدامها بشدة عندما تكون مستعارة أو مؤجرة، لأنها ليست مملوكة بشكل دائم.
السياق الثقافي والاجتماعي للمثل
تحمل الأمثال المتعلقة بالخيل بين ثناياها كثيراً من المعاني السامية والأهداف النبيلة، وتكشف عن جوانب من الحياة الاجتماعية والثقافية في العالم العربي القديم. كان العرب يرون في الخيل رمزاً للشجاعة والكرامة والصمود، وكان الاعتناء بالخيل جزءاً من التراث والأخلاق العربية. لكن المثل هنا يبرز فكرة مختلفة، حيث يشير إلى القوة والتحمل حتى في الظروف التي قد تبدو قاسية أو بدون عناية كافية. وبالتالي، يمكن اعتبار هذا المثل درساً في التحمل والصبر والقدرة على استغلال الإمكانيات بأقصى قدر ممكن حتى في الظروف الصعبة.
وقد قيل عن “المعار” بأنها قد تُنطق أيضاً بالغين المعجمة لتصبح “المغار”، بمعنى الفرس المهيأ والمضمر للسباقات. وأورد إسماعيل بن حماد الجوهري تفسيراً بأن “عار الفرس” يشير إلى الفرس الذي يتحرك هنا وهناك بمرح عندما ينفلت، وأعاره صاحبه، فهو معار، وهو ما يعبر عن المرونة والحركة التي تميز الخيل العربية الأصيلة.
أهمية الخيل في التراث العربي
لطالما كانت الخيل جزءاً لا يتجزأ من حياة العرب، حيث كانت تُستخدم في الحروب والسباقات والتنقل، وأيضاً كرمز للجاه والقوة والكرامة. ولذا، فإن الكثير من الأمثال والحكم والأشعار العربية القديمة اعتمدت على الخيل كمثال لنقل الأفكار والتعبير عن الصفات المختلفة مثل الصبر والقوة والمرونة. وكانت تربية الخيل والاعتناء بها من علامات الثراء والمكانة الاجتماعية، ولهذا كانت فكرة استعارة الفرس واستخدامه بدون تردد تُعتبر تعبيراً عن استخدام كل الموارد الممكنة لتحقيق الهدف.
“أحق الخيل بالركض المعار” ليس مجرد مثل شعبي، بل يعكس حكمة ثقافية عميقة، تتعلق بفكرة الاستفادة القصوى من الموارد المتاحة دون تردد، حتى وإن لم تكن هذه الموارد مملوكة بشكل دائم. يعبر المثل عن القدرة على التحمل والشجاعة والمثابرة، وهي صفات متأصلة في الثقافة العربية التي لطالما اعتزت بالخيل واعتبرت التعامل معها فناً وحكمة. رغم اختلاف التفسيرات حول أصل كلمة “المعار”، إلا أن الفكرة العامة التي يحملها المثل بقيت ثابتة، لتعبر عن استغلال الفرص وإظهار القوة في وجه التحديات، مهما كانت الظروف.
تابعونا على الإنستجرام
للمزيد من المقالات